الجمعة  22 تشرين الثاني 2024

التاريخ الاجتماعي لغزة: استمرارية الماضي في الحاضر

2023-11-15 07:10:10 AM
التاريخ الاجتماعي لغزة: استمرارية الماضي في الحاضر
غزة - 1933

تدوين- سوار عبد ربه

قدم أستاذ علم الاجتماع في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت د. أباهر السقا ندوة حاورته فيها مدير متحف جامعة بيرزيت د. رنا بركات ورئيس تحرير موقع جدلية د. بسام حداد، بعنوان: "التاريخ الاجتماعي لغزة: استمرارية الماضي في الحاضر"، منطلقا من أحداث السابع من تشرين الأول، لفهم الاستمرارية والتغيير المرتبطان بعملتي النزوح والتهجير، بالنظر إلى تلك الأحداث كشكل من أشكال الاستمرارية في التاريخ الحديث لمدينة غزة.  

إطلالة تاريخية

وفي مداخلته، عرض السقا جزءًا من التاريخ التهجيري في غزة، بالعودة إلى بداية الحرب العالمية الأولى، عام 1914، حيث هجر آنذاك مجموعة من سكان المدينة إلى يافا وحلب واللد وحمص وحماة، وكانت هذه واحدة من الهجرات التي وقعت في التاريخ الحديث، تبعها قرار العثمانيين بتحويل مدينة غزة كخط حربي، حيث تم إجلاء الكثير من الأهالي في حينها.

أما المشهد الثاني في التاريخ الحديث، فهو وفقا للسقا، "مع بداية تنفيذ النكبة المستمرة عام 1948، إذ وصل إلى مدينة غزة 190 ألف لاجئ خلال بضعة أيام من المناطق الساحلية، وعدد كبير من البلدات المحاذية للقطاع"، مشيرا إلى أن جزءًا كبيرا من العائلات عادت إلى لواء غزة الممتد من حدود العريش حتى مناطق الخليل وبيت جبرين طولا، ما يعني أنها كانت منطقة واسعة بالعمق لأنها تصل إلى أطراف بعيدة في النقب، وكانت تضم حتى وصول البريطانيين 80 قرية وببلدة، ثم قامت الميليشيات الصهيونية، وجيش الاستعمار الصهيوني عام 1948 بطرد مجموعات كبيرة من سكان الساحل والمناطق الجنوبية لفلسطين اتجاه لواء غزة، ثم عام 1949 جرى طرد سكان مدينة بئر السبع وضواحيها، وأيضا مناطق من النقب وسكان البادية إلى غزة، بالتوازي مع تهجير سكان بلدتي عسقلان والمجدل بعد النكبة".

 القوات البريطانية في غزة -1918

وبحسب السقا، بعد النكبة، تم تهجير عائلات معينة وحمائل من مناطق المنطار والشجاعية، أو ما يسمى بمناطق الخط الشرقي، أي شرق المدينة وهي مناطق ستتحول لاحقا إلى حدود (قطاع غزة) تبعها قرار وزير دولة الاستعمار موشيه يعلون في الخمسينات "تهجير السكان إلى سيناء" الأمر الذي رفضته مصر في البداية، وطرح عوضا عنه مشروع توطين ما بين 12-50 ألف فلسطيني في مناطق شمال العريش بخطة تمويل أمريكية والذي قابله الفلسطينيون باحتجاجات عارمة، قادت إلى مجموعة من التيارات الوطنية، ترأسها شيوعيون وإخوان، الذين تحركوا ضد مشروع التوطين، وخاضوا صداما مع القوات المصرية، قبل أن تتغير العلاقة بعد العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة، وتنشأ علاقة أخرى جديدة.

أما المرحلة الرابعة في هذا المشروع المرتبط بالتهجير، بحسب عالم الاجتماع، هو بعد احتلال قطاع غزة عام 1967، الذي أدى إلى طرد مئات العائلات ونفيهم خارج القطاع، تبعه الإبادة التطهيرية التي مارسها مجرم الحرب "أرئيل شارون"، في المنطقة الجنوبية خاصة ضد المخيمات وعلى رأسها مخيمي الشاطئ وجباليا، وعلى إثرها نُقلت مجموعة كبيرة من السكان إلى منطقة الشيخ رضوان الذي يسمى الآن بحي الشيخ رضوان وأجزاء أخرى باتجاه قطاع غزة.

وانطلاقا من هذه الاطلالة التاريخية على سلسلة التهجيرات التي حدث في غزة، اعتبر السقا أن أحداث السابع من تشرين الأول هي استمرارية تاريخية لهذا المسلسل التهجيري، واستمرارية للنكبة أيضا؛ باعتبارها حدثا مؤسسا ومرتبطا بشكل بنيوي وممنهج في صلب سياسة دولة الاستعمار التي قامت على ارتكاب المجازر وطرد السكان.

تغيير في خطط التهجير

ورغم الاستمرارية التاريخية لأحداث التهجير، إلا أن تغييرات طرأت على خطط التهجير، إذ قال د. أباهر السقا إنه "في الماضي كانت خطط التهجير يتم طبخها في أروقة غير علنية، أما اليوم نحن أمام مشهد مغاير، فجزء كبير من ساسة دولة الاستعمار ووزرائها والمستشارين في مراكز عالمية، وكذلك الأكاديميين باتوا يقدمون تصورات لطرد الفلسطينيين".

غزة-2023

والتغيير الثاني وفقا للسقا مرتبط بالمساحة الجغرافية لغزة، إذ في الماضي كان التهجير يتم نحو لواء غزة الذي تقلص وأصبح قطاع غزة، أما اليوم التهجير يقع في منطقة صغيرة تماما، ممتدة من وادي غزة إلى الحدود مع مصر.

بالوقوف عند هذين التغيرين، سيسيولوجيا، يمكن القول إن "هذا عنف غير مسبوق فالعنف الاستعماري الجديد في الحرب الأخيرة يحول سكان قطاع غزة إلى لاجئين داخل هذا القطاع، فالتجربة التاريخية لأجيال كثيرة من اللاجئين أصبحت الآن عابرة لكل مكونات المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، وهذا غير مسبوق وهو مشهد يستحق الدراسة والكثير الحزن والخوف والقلق"، بحسب د. أباهر.

دور الاستعمار في تبديل المشهد الجغرافي والطبيعي

وفي القسم الثاني من الندوة، عرج السقا على دور الاستعمار في تبديل المشهد الجغرافي والطبيعي، من خلال الإجابة عن سؤال "كيف يمكن أن تشكل فترة الاستعمار البريطاني مدخلا لفهم ما يحدث اليوم"، بربطه في كتاب كان قد أعده بعنوان "غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني، 1917-1948". (مؤسسة الدراسات الفلسطينية- 2018).

وفي هذا الجانب، قال السقا: "يمكن النظر إلى فترة الاستعمار البريطاني باعتبارها مدخلا إذا تتبعنا التسلسل التاريخي لتلك المرحلة، إذ قام الاستعمار الموجود في مصر آنذاك بعدة معارك للسيطرة على لواء غزة، لكنه لم ينجح، واحتاج إلى ثلاث معارك طاحنة، شاركه فيها كتيبة أسترالية، بالإضافة إلى مقاتلين تم استجلابهم من الهند والجزر النائية، للوصول إلى مسعاه، وخسر فيها ما يقارب 6000 جندي.

وأشار د. أباهر إلى أن هذه المعركة التي خاضها مقاتلون محليون رفقة العثمانيين وبعض من الألمان دفاعا عن المدينة، مرتبطة في المخيال الغزي والفلسطيني بذاكرة البطولة.

وإضافة إلى ما سبق، لعب الاستعمار البريطاني دورا أساسيا في إجراء مجموعة كبيرة من التبدلات على لواء غزة بحسب السقا، تمثلت في إغلاق الحدود وتغيير معالم المدينة وطوبوغرافيتها، وشكل البناء فيها، وهو ما يفعله الاستعمار الصهيوني الآن، الذي يقوم بتعطيش القطاع وتجفيف قدرته بالحصول على الماء، في حين كانت غزة حسب ما وصفها مؤرخون ورحالة وكما ورد في المصادر الأرشيفية وأحاديث الناس، مكانا غنيا بحدائق من الزيتون وأشجار اللوز والغابات والبساتين، خاصة في مناطق شرق المدينة ووادي غزة، وهو ما يدلل على دور الاستعمار في تغيير الجغرافيا والتكامل الطبيعي في فلسطين.

منتزه بلدية غزة- 1933

كما أن فلسطين قبل عام 1968، أي قبل وضع الحواجز وعزلها لسرقة مياهها لصالح مستوطنات غلاف غزة المقام جزء كبير منها على أملاك لعائلات المدينة أو قرى وبلدات صغيرة أصحابها الأصليين موجودين في قطاع غزة، إما في المخيمات أو في المدن. لم تعرف مشكلة المياه، إذ كانت تصلها من جبال الخليل وحلحول، وتغذي الآبار الجوفية فيها.

تبدلات البنية الحضرية لمدينة غزة

وفي محور آخر، تحدث السقا عن العوامل التي أدت إلى تبديل المشهد الحضري في مدينة غزة، تلك التي عاشت فترتها الذهبية في العهد المملوكي، إذ وصفت بأنها غاية في الجمال، ذات أسواق متسعة، وفيها حدائق، وشركات فرنسية مستثمريها من عائلة رضوان التي كان أفرادها من حكام المدينة آنذاك، قبل أن تهدم في الفترة البريطانية، التي عمل المستعرون خلالها على تدمير بلدتها القديمة بين عامي 1916-1917، ما يعني أنها فقدت جزءًا كبيرا من معاملها بفعل التدمير الممنهج للمستعمر، بخلاف مدن فلسطينية أخرى كنابلس والقدس. واستمرت عمليات التغيير الحضري، عام 1948، بخسارة غزة لمعظم قراها التي كان عددها 53، واليوم أصبحت 8، تحولت بفعل التخطيطات الحديثة إلى أشباه مدن.

وتبع عام النكبة، خسارات أخرى لمساحات واسعة من الأراضي، واحدة منها ارتكبها مسؤول مصري تنازل عن أراضي من لواء غزة في اتفاقية رودس عام 1949. بالإضافة إلى التبدلات التي جرت بفعل العدوان الثلاثي، الذي أسفر عن تدمير الكثير من منشآت المدينة ومعالمها. إلى جانب تدخلات أهلية لها علاقة بسيادة المنطق العقاري والتجاري والاستثمار به كدورة اقتصادية وغياب قوانين لحماية الموروث المعماري.

لمشاهدة الندوة كاملة