تدوين-ترجمة: نادية القطب
نشرت هذه المقالة في موقع Tablet، الذي يعني بشؤون الفلسفة والأدب، للكاتب بليك سميث، وتتمحور المقالة حول سؤال رئيس ألا وهو: كيف يتلاشى الحكم الشخصي ــ الضروري لمجال عام ديمقراطي متنوع ــ في محاولاتنا المبتذلة للانضمام إلى الحشد.
تُذكَر حانا أرندت، التي توفيت قبل 45 عاما، اليوم، كمحللة للاستبداد والفشل الأخلاقي الناجم عن اعتمادنا العقلي على الكليشيهات. ويمكن اعتبارـ أرندت، كمنظِّرة السياسية، أعظم تلميذة لمونتسكيو، الذي زعم في كتابه الكلاسيكي الذي صدر في القرن الثامن عشر بعنوان "روح القوانين"، أن الحكومة المطلقة تعتمد على العزلة الاجتماعية لرعاياها وتكون نتيجة لها. ومثله، كانت أرندت تعتقد أن النظام السياسي المقبول لا يمكن أن يوجد إلا حيث يسمح "بالظهور" لنوع معين من المجال العام للأفراد من أجل بعضهم البعض، ومن أجل تبادل الأفكار، وانتقاد الحكومة، والقيام بشكل جماعي بأنواع جديدة من العمل.
وباعتبارها منظِّرة أخلاقية، ربما كانت أرندت أعظم تلميذة لمارتن هايدجر ــ ولفترة من الوقت، عشيقته. في كتابه "الكينونة والزمان" (1927)، حلل هايدغر الطريقة التي يسيطر بها ما أسماه "الهم" على حياتنا الأخلاقية: الكليشيهات التي تخنق صوت الضمير وتمنعنا من الشعور بأن كل منا مسؤول عما يفعله وما يصبح عليه.
وبجمعها بين هذين المفكرين، كشفت أرندت كيف أن الناس الوحيدين العاجزين المنفصلين عن تقاليدهم والمعتمدين في التوجيه على العقائد السائدة في الوقت الحاضر غير قادرين على مقاومة الشر - أو حتى ملاحظة أنهم يرتكبون الشر. وفي حين أن النازية والاستبداد السوفييتي ربما يكونان أكثر أشكال هذه الأزمة السياسية والأخلاقية رعباً، كما زعمت، فإنها تؤثر أيضاً على الديمقراطيات الليبرالية مثل الولايات المتحدة. وحذرت من أن حتى الأفعال التافهة التي تصبح ضمن استهلاك وسائل الإعلام والتعليق الثقافي تُظهر كيف أن العزلة الاجتماعية وعدم المسؤولية تجعلنا مدينين للهم، وعلى استعداد لاتباع الكليشيهات السائدة في الأعمال الشريرة.
لقد أصبح تحليل أرندت للشمولية جزءاً من ثقافتنا الفكرية المشتركة (ومصدراً للكليشيهات التي انتقدتها) ولكن الحلول التي اقترحتها أثبتت أنها أقل تأثيراً. فقد زعمت أن المخاطر التي تواجه حياتنا السياسية والأخلاقية لابد وأن نواجهها بنوع معين من النشاط العقلي أطلقت عليه أرندت "الحكم"، وميزته عن نوعين آخرين: "الإدراك" و"التفكير".
المخاطر التي تواجه حياتنا السياسية والأخلاقية لابد وأن نواجهها بنوع معين من النشاط العقلي
ويظل هذا التقسيم الثلاثي للنشاط العقلي أحد أقل جوانب عمل أرندت شهرة. وهناك مقال آخر أقل شهرة بعنوان "ناتالي ساروت" (1964)، حيث تبدو أرندت وكأنها تقوض الأمل في "الحكم". وهنا تقدم أرندت ما قد يكون أكثر رواياتها إثارة للخوف عن قوة "الهم" في مجتمع ديمقراطي يسكنه أفراد بلا جذور يسعون إلى شكل زائف من الارتباط من خلال استهلاك وسائل الإعلام وإبداء الآراء حولها. وتحذر أرندت من أن هذا النوع من الحياة يقضي على قدرتنا على أن نكون أشخاصا أخلاقيين أصيلين وبالتالي قادرين مقاومة الشر.
ولكي نفهم نظرية أرندت القائلة بأن ما تسميه "الحكم" قد يقدم حلاً لأزمتنا الأخلاقية والسياسية ــ وعدم اليقين المزعج الذي تكشف عنه مقالتها "ناتالي ساروت" تحت أسس هذه النظرية ــ فمن الضروري أن نستعرض إعادة وصفها لحياتنا العقلية. فقد كانت أرندت تعتقد أن عقولنا تؤدي عدة أنشطة متميزة، ولكل منها غرضها الخاص ــ ولكل منها أبعادها السياسية الخاصة.
وفيما أسمته "الإدراك"، نتعامل مع أمور واقعية وقواعد منطقية. ونستخدم الإدراك لاكتشاف الحقيقة، أو لإيصالها إلى وعي شخص آخر. وفي كلتا الحالتين، تضمن الحقائق التجريبية والقواعد المنطقية أن هناك بعض الحقيقة التي يمكن معرفتها. والإدراك أداة لتحقيق الأهداف، ورغم أنه قد يولد ارتباكات وخلافات مؤقتة، فإنه لابد وأن يصطدم في نهاية المطاف ببعض المعلومات المفيدة التي تعيدنا إلى نشاطنا الناجح إلى حد ما في العالم.
ما أسمته أرندت "التفكير" مختلف تمام الاختلاف. إن هذا النشاط، الذي تحلله على نطاق واسع في كتابها "التفكير" (1977)، قد يبدأ بما يبدو وكأنه أسئلة تتعلق بالإدراك، وهي قضايا عملية في ظاهرها تحتاج إلى توضيح من خلال بعض الحقائق القابلة للاكتشاف. إلا أن هذا النشاط يقودنا بعيداً عن الاهتمام بالحقيقة، والنشاط، والعالم.
إننا قد نسأل أنفسنا، على سبيل المثال، ما إذا كان بعض الأفعال التي ارتكبناها قسوة. ولكننا سرعان ما ندرك أن طبيعة القسوة ليست حالة يمكن معرفتها تجريبياً أو تخضع لقواعد المنطق. والآن نسأل: "ماذا يعني أن تكون قاسياً؟". وتزعم أرندت أن مثل هذا السؤال لا يمكن أن يصل إلى إجابة نهائية. ولكن عملية التفكير، ما دامت مستمرة، تحيينا، وإذا استطعنا تحملها، فإنها تنشئ صحوة قد تساعدنا، دون أن تمنحنا يقيناً بشأن الطبيعة الموضوعية للقسوة، على أن نصبح أقل قسوة، لأننا أقل ثقة في أنفسنا في سلوكنا اليومي غير التأملي.
إن التفكير والإدراك يقدمان لنا إغراءات خطيرة تشوه حياتنا الشخصية وخياراتنا السياسية. وقد يبدو أن الإدراك قد يكون كافياً لتلبية احتياجاتنا اليومية. فإذا اختلفنا حول مسألة واقعية، فإن عمليات التحقيق والتفكير المنطقي تضمن لنا أن نجد إجابة تجبرنا على الاتفاق. إن كانت كل مشاكلنا من هذا النوع، فربما كان بوسعنا أن نتصور الأخلاق والسياسة بوصفهما حلاً للمشاكل العملية، التي من الأفضل أن نتركها في أيدي الخبراء الذين أتقنوا المهارات المعرفية المتمثلة في اتباع القواعد وجمع الحقائق.
ولكن الحياة لا تنشغل بمثل هذه الأسئلة فحسب. بل إنها أيضاً، على نحو أكثر إلحاحاً إن لم يكن في أغلب الأحيان، منشغلة بأسئلة تتعلق بالمعنى والقيمة والغرض. وكما قالت أرندت في مقالها "حول العنف" (1970)، فإن "أدمغتنا العلمية"، والخبراء، الذين يتعاملون مع كل الأسئلة باعتبارها موضوعات للإدراك، "لا يفكرون" ـ ويشجعوننا على عدم التفكير أيضاً. فالحياة بلا تفكير تفتقر إلى التحدي المنعش المتمثل في طرح أسئلة على النفس مثل "ماذا يعني ___؟" والأسوأ من ذلك أنها معرضة لتأثير "الهم"، ومجاراة الشر. لقد زعمت أرندت في تحليلها لمحاكمة أدولف آيخمان أن من لا يفكر قد يشارك في إبادة جماعية كما لو كانت المسألة لا تتعدى تطبيق القواعد (القيام بـ"واجب" المرء واتباع القانون) وحل المشاكل التقنية.
ولكن في حين كانت أرندت تعتقد أننا لابد وأن نفكر من أجل مقاومة الشر، فإن التفكير لا يكفي. فقد شارك هايدجر، الذي اعتبرته أعظم المفكرين المعاصرين، في شر النازية ــ على وجه التحديد، كما زعمت، كنتيجة لتفكيره. وفي كتابها "مارتن هايدجر في الثمانين" (1971)، أشادت أرندت بمعلمها السابق باعتباره منشئ الفكر في العصر الحديث: "لقد عاد التفكير إلى الحياة مرة أخرى؛ والآن أصبحت الكنوز الثقافية من الماضي، التي كان يُعتقد أنها ماتت، تتكلم". ولم يصف هايدجر في كتابه "الوجود والزمان" خواء الحياة الخالية من الفكر فحسب؛ بل إنه أيقظ عقول الطلاب مثل أرندت الشابة. لقد أظهرت لها ندواته عن أفلاطون أن وراء الادعاءات والعقائد التي يصفها مؤرخو الفلسفة بالأفلاطونية، كانت هناك "مجموعة من المشاكل ذات الصلة المباشرة والعاجلة"، وهي تدعو إلى التفكير.
بعد أن أشادت بهذه الطريقة بهايدجر وأفلاطون والتفكير، انتقدت أرندت الثلاثة. إن التفكير يتخلى، بقدر ما يستطيع، عن عالم الحياة اليومية، الذي يبدو للمفكرين وكأنه مجال التحيز والروتين. وأولئك القادرون على الاستمرار في التفكير يتجهون إلى احتقار ما تركوه وراءهم. إنهم يتخيلون، كما عبر أفلاطون في استعارته للكهف، أنهم انتقلوا إلى عالم أعلى، لا يمكن الوصول إليه إلا من قبل قِلة. وتغذي هذه الأقلية خيالات الحكم على الحشد غير المفكر ــ أولئك الذين ما زالوا في قبضة "الهُم" ــ أو تحقيق "هروب دائم من الواقع". وفي كتابات أفلاطون السياسية، "الجمهورية" و"القوانين"، تتحد الإغراءاتان في رؤى لمجتمع يحكمه فئة من المفكرين المدربين تدريباً خاصاً.
لقد أشارت أرندت ضمناً إلى أن هايدجر كان قد قدم دعمه للنازيين بدافع من شوقه إلى لعب دور الملك الفيلسوف الأفلاطوني. وبعد أن أدرك أن هذا لن يحدث، فر من الواقع، وتميزت أعماله اللاحقة بالتصوف الزائف الظلامي. وسواء كان يدافع عن الشر أو يختار تجاهله، فقد كان مذنباً بتغطية أهوال النازية "بلغة العلوم الإنسانية". أو كما قالت في مثلها "هايدجر الثعلب" (1953)، فقد تصور أنه نجا من "فخ" الـ"هُم"، لكنه لم يفعل سوى إيقاع نفسه في الفخ مرة أخرى، مستسلماً لرغبته في التأثير على الجمهور الذي تظاهر بأنه يحتقره، قائلاً لنفسه: "لقد زارني الكثيرون في فخّي حتى أصبحت أفضل الثعالب على الإطلاق".
إن الإدراك والتفكير قد يقودان إلى الشر. فالإدراك يتركنا محاصرين في البحث عن حلول تقنية، عاجزين عن ملاحظة توافقنا غير المسؤول مع "الهُم" حتى ولو تطلب الأمر إبادة جماعية. والتفكير يغرينا باحتقار "الهُم" وقبول الشرور التي تلحق بالآخرين باعتبارها ذات أهمية ضئيلة مقارنة بالأشياء المثالية التي نتخيلها في خيالاتنا الفلسفية. وكل من الإدراك والتفكير يخاطران بترك السياسة في أيدي النخب. فالإدراك يفضل التكنوقراطيين وأمثال آيخمان المتهورين، في حين يفضل التفكير الطوباويين الأفلاطونيين الذين لديهم مخططات لتحويل الجماهير بما يتماشى مع أفكارهم المستنيرة المزعومة. ولا يمكن لأي من نمطي النشاط العقلي أن يشكل الأساس لحياة جيدة أو نظام سياسي منظم بشكل صحيح.
إن انتقادات أرندت للإدراك والتفكير تنظم كتاباتها السياسية الكلاسيكية في الخمسينيات والستينيات. وكانت محاولتها لإيجاد حل أبطأ وأكثر دقة في الظهور. ولم تشرح الدور السياسي لشكل ثالث من أشكال النشاط العقلي إلا في أواخر حياتها، في محاضراتها التي ألقتها عام 1970 عن إيمانويل كانت. وهذه الطريقة في استخدام عقولنا تسمح لنا بمعالجة مسائل الأخلاق والمعنى التي يتجنبها الإدراك، في حين تعيد ربطنا بالآخرين والحياة اليومية، التي يفصلنا عنها التفكير. وأصرت على أن هذا هو نوع ديمقراطي من النشاط العقلي، وهو أمر بالغ الأهمية للنوع من المجال العام القادر على مقاومة الحكم الشمولي والنوع من الحياة الشخصية القادرة على رفض تأثير "الهُم".
إن نظريتها في الحكم تستند إلى بصيرة بسيطة على ما يبدو: "إنك تحتاج إلى صحبة للاستمتاع بوجبة طعام". فما الذي يجعل حاسة "التذوق" ــ أو أي متعة حسية أخرى ــ تطالبنا بالتعليق على ما نتذوقه، ومشاركة رأينا مع صديق، وإشراكه في تجربتنا؟ إن هذه الملذات، كما زعمت أرندت، تمتلك "توجهاً أساسياً نحو الآخر" أو "الذاتية المتبادلة"، وتلهمنا لتحويل تجربتنا الجسدية الفريدة والشخصية تماماً إلى تقييم لفظي يستدعي انتباه شخص آخر. وتسمي "الحكم" هذه العملية التي تفتح إحساسنا على عالم اجتماعي مشترك. وبمجرد أن نفهم كيف تختلف لحظات الحكم هذه عن الإدراك والتفكير، كما تقول أرندت، يمكننا أن نرى أن الطريقة التي نتحدث بها معاً عن أذواقنا، كما يحدث كل ليلة حول موائد العشاء، هي أيضاً ما يجعل السياسة غير السلطوية ممكنة.
قد يبدو هذا سخيفاً. قد نقول إن التقييمات الجمالية ذاتية وغير جوهرية إلى الحد الذي يجعلها لا تستحق اهتمامنا. عندما نلاحظ الملذات الغريبة التي يتمتع بها جارنا، نهز أكتافنا ونقول إنه لا جدوى من الجدال حول الذوق. ومع ذلك، بالنسبة لأرندت، فإن الأحكام هي دائماً، وإن لم تكن حجة، نداء إلى الآخر. لنتأمل على سبيل المثال زيارة متحف فني مع صديقة تتمتع "بذوق جيد" في اللوحات. بينما تتجول في معرض فني، دون أن تنتبه إلى أي شيء بعينه، بينما تتدفق أعمال فنية متشابهة إلى حد ما عبر مجال رؤيتك، تنقر صديقتك على ذراعك وتقول: "انظر إلى هذا!"، مشيرة إلى ما يبدو أنه مثال عام آخر لأسلوب ما. وبينما تقتربان، تشرح لك مدى العناية التي يبذلها الرسام في استخدامه للظل، وضربات الفرشاة غير العادية في الزاوية، أو الإشارة إلى أسلوب رسام آخر. تبدأ في رؤية ما لم تره من قبل - أن هذه لوحة جميلة. تطلقك صديقتك في رؤية جديدة للعالم.
لم تقدم صديقتك حجة. لم تبدأ بتقديم تعريف منطقي للوحة الجميلة ثم توضح أن ميزات هذه اللوحة تلبي معايير هذا التعريف. ولم تدل ببيان حول تفضيلاتها الخاصة ("أنا أحب هذه اللوحة"). لقد جرّتك صديقتك إلى عملية تفسير، حيث تظهر فجأة جوانب من الواقع كنت تتجاهلها (ضربات الفرشاة، والظلال، وما إلى ذلك) ليس كوحدات مادية معزولة، بل كجوانب ذات مغزى من الكل.
وبتوجيه من رؤيتك الجديدة، ترى المزيد والمزيد من العناصر التي كانت مخفية في السابق. أنت لا تتفق مع صديقتك بشأن اللوحة بعد عملية من المداولة العقلانية، كما قد يكون الإدراك. ولا تبتعد عن أوهام العالم اليومي إلى عالم من الأفكار الصرفة، كما قد يكون التفكير. بل إنك تمتلك المزيد من العالم، وبكثافة أكبر - أو بالأحرى الجمال وضربات الفرشاة (الكل ذي المعنى وأجزائه) تمتلكك، مما يجمعك أنت وصديقك أمامهم.
إن حديث أرندت عن الحكم كانت مدينة بالكثير لنظرية هايدجر في الجماليات. ففي محاضرته التي ألقاها عام 1935 تحت عنوان "حول أصول العمل الفني"، أصر هايدجر على أن شيئاً مثل اللوحة لا يمكن فهمه إما من خلال الإجراءات الفنية للتحقق (الإدراك) أو التأملات في المثل الأعلى للجمال (التفكير). وبدلاً من ذلك، تربطنا اللوحة، مع الآخرين، في علاقة خاصة، وتجذبنا إلى عمق واقعها. ومن خلال توحيد "الأرض" المادية مع "العالم" الاجتماعي، تُظهر لنا الأعمال الفنية أنه من الممكن أن نتقاسم تجاربنا في المعنى مع بعضنا البعض، ليس في يوتوبيا أفلاطونية منفصلة عن الحياة اليومية، ولكن هنا، في الحاضر، حول ظاهرة حقيقية محددة. وبهذا المعنى زعم هايدجر أن الفن هو "أساس" يجعل من الممكن لـ "الشعب" أن يكون مجتمعاً أصيلاً، مجتمعاً تتجسد فيه المشاعر والأفكار المشتركة في أشياء مشتركة تثير الإعجاب. ولقد وصف هايدجر هذا المجتمع في رؤية لأعضاء مدينة يونانية يتجمعون حول "معبد" في عمل من أعمال العبادة ــ وهو النوع من الخبرة التي قد يعيشها المرء أيضاً كنازي متحمس يشاهد فيلم "انتصار الإرادة" للمخرجة ليني ريفنشتال، وهو فيلم صدر في نفس العام الذي ألقت فيه هايدجر محاضرتها.
المجتمع السليم هو المجتمع الذي يستطيع فيه الأفراد تعديل آراء بعضهم البعض تدريجياً وبإجماع الآراء حول موضوعات تصوراتهم
وبالنسبة لأرندت، كان التحدي يتلخص في تكييف رؤى هايدجر لصالح نوع أفضل من السياسة، وهو النوع الذي يقوم على تبادل وجهات نظر متعددة بدلاً من التجربة النشوة المتمثلة في الاتفاق التام. وزعمت أن المجتمع السليم هو المجتمع الذي يستطيع فيه الأفراد تعديل آراء بعضهم البعض تدريجياً وبإجماع الآراء حول موضوعات تصوراتهم. وأشارت أرندت إلى أن الحكم نفسه، بطبيعته، يعترف بوجود أحكام أخرى محتملة. فعندما نعبر عن أذواقنا في التقييم ("إنه لذيذ!")، فإننا لا نناشد الآخرين فقط لمشاركتنا آرائنا، بل نناشدهم أيضاً للتعبير عن آرائهم. "إن هذا الاستئناف المحتمل هو الذي يعطي الأحكام صلاحيتها الخاصة"، والتي تختلف عن صلاحية الإدراك. فالأحكام لا تؤكد صدقها من خلال التحقق من الخصائص الموضوعية لموضوع الحكم (لن نحسم خلافنا حول مزايا اللوحة من خلال قياس أبعادها). كما أنها، كما في تحليل هايدغر، لا تستسلم بالإجماع للخضوع للجماعة. بل إن الأحكام، في نظر أرندت، "تستميل وتغازل" موافقة كل شخص آخر"، بطريقة "تأخذ في الاعتبار جميع الآخرين ومشاعرهم".
إن حكمي "حقيقي"، وبالتالي، إلى الحد الذي يصل فيه إلى وجهات نظر الآخرين، ويرى كما يرون، ويقنعهم بالرؤية كما أرى، وبالتالي يجمعنا جميعًا في رؤية موسعة. إن هذا النوع من الإغواء المعمم، حيث يستخدم المرء خطاباً عاطفياً ("انظر إلى تلك الضربات الرائعة!")، فيجذب رفاقه إلى الاتفاق ليس فقط مع جمال الشيء الذي يراه، بل وأيضاً مع جمال الخطاب الذي يكشف من خلاله جمال الشيء عن نفسه. وخلصت أرندت إلى أن هذا هو هيكل المجال العام الديمقراطي: الفضاء الذي تصل فيه المناشدات الخطابية لجمهور متنوع إلى الإجماع، في حين تدرب المواطنين على فنون تقديم آرائهم وتغييرها. إن نظرية أرندت في الحكم، وشعورها بأنها قد تكون أساساً للسياسة، حيث تفشل المعرفة والتفكير، عرضة لعدد من الاعتراضات. ورغم أنها معروفة شعبياً كناقدة للخداع السياسي، فقد زعمت أرندت أن فكرة "الحقيقة" غير مناسبة في السياسة القائمة على الحكم. وفي محاولة "إغواء" بعضنا البعض، نستخدم لغة مثيرة، وليس الادعاءات الواقعية والمنطقية للإدراك، أو المحاولات للوصول إلى مفاهيم واضحة من سمات التفكير. إن أولئك الذين ينتقدون عصرنا باعتباره عصر "ما بعد الحقيقة"، أو الذين يزعجهم وجود الخطابة والعاطفة في السياسة، قد يخشون أن تضفي نظرية أرندت الشرعية على الديماغوجيين الشعبويين.
ولكن أقوى انتقاد لنظريتها اقترحته أرندت نفسها في مقالها عام 1964 عن ناتالي ساروت. ولدت ساروت باسم ناتاليا تشيرنياك، وهاجرت إلى فرنسا مع عائلتها اليهودية الروسية في سن الثانية. كانت واحدة من أكثر الروائيين أصالة في الأدب الفرنسي الحديث، وموضوع مقال أرندت، رواية ساروت عام 1963 "الفواكه الذهبية" (Les Fruits d'Or)، هي تحفتها الفنية. طورت ساروت أسلوبًا مبتكرًا يقدم للقراء، بدلاً من الحوار، أوصافًا مجازية أو مونولوجات مفصلة تكشف عن ما يفكر فيه الشخصيات حقًا عندما يتحدثون مع بعضهم البعض. في الظلام الصامت الذي تخرج منه تعليقات تبدو حميدة، تتلوى دوافع متشابكة وشريرة.
ولقد نجحت ساروت في إبراز الصغائر الخبيثة الكامنة وراء سطحية المحادثات اليومية. ففي كتابها "الفواكه الذهبية"، سخرت من المؤسسة الأدبية، موضحة كيف أن الأحكام التي تصدر بشأن مزايا كتاب ــ في هذه الحالة رواية خيالية بعنوان "الفواكه الذهبية" ــ لا تتعلق بأي شيء سوى الكتاب نفسه. وعلى مدار القصة، ترتفع سمعة الرواية الخيالية، فتتحول إلى موضوع إلزامي للمديح، ثم تهبط، فتتحول إلى موضوع شبه عالمي للسخرية. ولكن لا أحد يستشهد بسطر منها، أو يعبر عن رأي أصيل ــ فكل شخصية تحاول بشكل محموم تسجيل نقاط مع الآخرين من خلال التعبير عن اختلاف ذكي في المزاج السائد.
لقد وجدت أرندت أن كتاب "الفواكه الذهبية" "مضحك بشكل رائع" في هجماته على "وسط النخبة المفترض أنها "موجهة داخلياً" من "الذوق الرفيع"... المثقفين الذين يتباهون بأعلى المعايير". وهؤلاء الناس، الذين يتصورون أنفسهم الأكثر تأهيلاً لإصدار أحكام جمالية، هم في الواقع مدينون للكليشيهات. ولكن يبدو أن أرندت لم تلاحظ أن الشخصيات في كتاب "الثمار الذهبية" تبدو وكأنها من أتباع أرندت الصالحين، حيث تتبادل أحكامها بطريقة ديمقراطية. "إنهم يستنفدون كل الجوانب، وكل الحجج، ويتفوقون على بعضهم البعض"، مستخدمين مهاراتهم الخطابية في محاولة لإغواء بعضهم البعض بآفاق جديدة. ولكن كل هذا الحديث ليس سوى جهد محموم للهروب من "جحيم" العزلة في مجتمع ليبرالي حديث، لا يقل عمقاً عن عزلة النظام الشمولي.
قالت أرندت عن شخصيات ساروت: "إنهم جميعاً متشابهون"، لأنهم، في شوقهم إلى التواصل الإنساني، يحاولون استخدام تحريفاتهم السطحية الثاقبة للرأي الحاكم باعتبارها "كلمات مرور وتعويذات" تمنحهم الدخول إلى نادٍ مختار من "أولئك الذين ينتمون إلى بعضهم البعض". إنهم لا يستطيعون مشاركة تجاربهم الشخصية مع الكتاب مع الآخرين، لأن تجاربهم كانت غير شخصية منذ البداية، مشوهة برغبتهم الشديدة في توليد تصريحات حول الكتاب تشير إلى ولائهم لموضة اللحظة وتألقهم الفردي. إن الحوار الإعلامي الشامل جعل من المستحيل التعبير عن الرأي لأن لا أحد معرض لضجيج مثل هذه الأصوات الكثيرة والراغب في الانضمام إليها، يستطيع أن يمتلك عقلاً خاصاً به ليتحدث.
في "ناتالي ساروت"، يبدو أن الحكم أيضاً عاجز أمام "الهُم". فبدلاً من أن نسير مع "الهُم" دون وعي، أو نستهزئ به، كما قد نفعل في الإدراك والتفكير، نحاول في الحكم أن نستبق "الهُم"، وأن نعبر عن رأي قادر على تعديل قواعد التعليق المقبولة بمهارة بحيث يمنحنا "الهُم" شعوراً عابراً بعضوية المجموعة والقيمة الشخصية. وبعد ستين عاماً من مقال أرندت، ومع جلب وسائل الإعلام الاجتماعية لهذه العمليات من الحكم إلى أعمق حميميات ما كان ذات يوم حياة خاصة، يبدو من غير الممكن على الإطلاق أن يتمكن الأشخاص الذين تدربت عقولهم على مثل هذه التمارين المتمثلة في إعطاء "كلمات مرور" من أجل "الانتماء" - ونحن جميعاً مثل هؤلاء الأشخاص الآن - من تحرير أنفسهم من "الهُم".
إننا نستطيع أن نرى ــ كما زعم جيف شولينبرجر مؤخراً في كتابه "تابلت" (Tablet)، مستفيداً من عمل رينيه جيرارد ــ هذه العملية التي تعمل اليوم على وسائل الإعلام الاجتماعية. ويزعم شولينبرجر أن مستخدمي تويتر يعبرون عن آرائهم من أجل اكتساب نقاط في هيئة إعجابات وتعليقات وما إلى ذلك ــ وهي رموز تشير إلى أننا جزء من "الهُم"، المتعلقين بنظرة موافقة من جانب جماعة وهمية. ومن منظور شولينبرجر الجيراردي، فإن هذه الأفعال التي تتسم بالحكم تحفزها منذ البداية رغبة "تقليدية"، أي شوق إلى الحصول على ما يبدو أن الآخرين يريدونه (الإعجابات، والمتابعون، والمشاركة الكاملة في الخطاب). وعندما نبدي رأياً على تويتر، فإننا لا نستمد الإلهام من رغبة شخصية أصيلة في توسيع علاقتنا الخاصة بالعالم من خلال لقاء علاقات أخرى من هذا القبيل، بل من رغبة مشتقة ومقلدة في الحصول على الاهتمام الذي يبدو أن الآخرين يتمتعون به.
إن هذا الموقف أسوأ من التوافق غير المدروس مع "الهُم"، وذلك لأننا نتنافس بنشاط لتقديم أشكال جديدة من الكليشيهات السائدة. ونحن نختبر هذه المنافسة العامة على الاهتمام باعتبارها "طحنًا ثابتًا من الحسد والاستياء والعداء المتبادل"، والذي يحذر شولينبرجر من أنه يخفف بشكل دوري عندما "نعيد توجيه ... العدوان إلى "ضحية بديلة"،" والتي أطلق عليها جيرارد "كبش الفداء". ومثل شخصيات رواية "الفواكه الذهبية" لساروت، قد نشيد ببطل اللحظة، أو "نضحي" بضحية، دون أن يزعجنا أدنى شكوى من الضمير.
لقد اختتمت آرندت مقالها بملاحظة من التفاؤل الزائف. فقد زعمت أن كتاب "الفواكه الذهبية" ينتهي بمشهد "تتحول فيه ناتالي ساروت من "هُم" و"أنا" إلى "نحن" القديمة التي كانت تمثل المؤلف والقارئ. والقارئ هو الذي يتحدث: "نحن ضعفاء للغاية وهم أقوياء للغاية. أو ربما... نحن، أنت وأنا، الأقوى، حتى الآن". لقد خدعت آرندت نفسها أو خدعت قراءها. فالمشهد الذي وصفته يرى معجباً مجنوناً بالرواية يكتب إلى مؤلفها، الذي سقط في غياهب النسيان. ويشتكي المعجب، بلغة مليئة بالكليشيهات البائسة، من أن جمهور الأدب كان مخطئاً في ابتعاده عن "الفواكه الذهبية" ويشيد بنفسها على "مقاومتها". ولكن هذا ليس سوى نداء آخر إلى "هُم"، يغذي الأمل في أن يتحول الرأي العام مرة أخرى للاعتراف بعبقرية المؤلف، وعبقريتها الخاصة.
إن حقيقة أن أرندت لم تدرك النقطة الأساسية، وقرأت هذه اللحظة باعتبارها تأكيداً على إمكانية إقامة علاقة حقيقية مع مؤلف، تشكل هزيمة ساخرة لنظريتها. فقد كانت تأمل في بناء سياسة ديمقراطية من النوع الذي ينشئه القراء مع الكتب ومع بعضهم البعض، ولكن بينما كانت تحاول إرساء هذا الأمل في تجربتها الخاصة مع الأدب، فقد أساءت تمثيل رؤية ساروت القاتمة. إن آمال أرندت في إيجاد حل لأزمتنا الأخلاقية والسياسية من خلال "الحكم" مهددة بشوقنا إلى الهروب من الوحدة القلقة من خلال التواصل في الثرثرة الفارغة، والهستيريا المبالغ فيها للذات من "المقاومة"، وربما الأكثر إزعاجاً، الإغراء ــ الذي يشعر به حتى عقول مثل أرندت ــ لإخفاء محنتنا بالكليشيهات المتفائلة.
إن البصيرة الأخلاقية والسياسية العظيمة في عمل أرندت هي أن هناك خطوة قصيرة فقط من المشكلة التافهة على ما يبدو المتمثلة في وجود آراء غير أصيلة إلى أهوال العنف الجماعي. ولكن لا يبدو أي من أنماط النشاط العقلي التي حددتها ــ الإدراك، والتفكير، والحكم ــ كافيا لإنقاذنا من قوة الـ"هُم" التي تخدر ضمائرنا. ومع توسع وسائل الإعلام الاجتماعية في نشر هذا النوع من التعليقات الثقافية التي سخر منها كتاب "الثمار الذهبية" من دائرة صغيرة من الأدباء إلى العالم بأسره، فمن الأهمية بمكان أن ننظر في أخطاء أرندت فضلا عن رؤاها الثاقبة، وأن نسأل كيف (أو ما إذا كان) بوسعنا أن نحمي حياتنا من عدم المسؤولية وعدم الأصالة، وأن نحمي سياساتنا من العنف والاضطهاد.