الأحد  24 تشرين الثاني 2024

بدر عثمان يطلق مجموعته "ترجمة باخ" في متحف درويش

2019-03-06 08:22:23 AM
بدر عثمان يطلق مجموعته
من الأمسية

 

الحدث الثقافي

 أطلق الشاعر بدر عثمان، مساء الثلاثاء، مجموعته الشعرية "ترجمة باخ"، وذلك بمتحف محمود درويش في مدينة رام الله.

وقرأ الشاعر فارس سباعنة مداخلة نقدية كتبها الشاعر عبد الرحيم الشيخ، تناولت مجموعتي عثمان "الأعمى" و"ترجمة باخ"، ليقدم بعده الروائي أكرم مسلّم مداخلةً في المجموعة ويقوم بإدارة حوار مع الشاعر خلال الأمسية، فيما ألقى عثمان مجموعة من قصائده.

وعرضت أثناء الأمسية مجموعة من المقاطع الموسيقية للموسيقار يوهان سبيستيان باخ، وقام عثمان في نهاية الحفل بتوقيع نسخ من المجموعة للحضور.

وصدرت المجموعة عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في الأردن، بالتعاون مع مؤسسة عبد المحسن القطان، وكانت قد حصلت على إشادة لجنة التحكيم في مسابقة الكاتب الشاب التي أجرتها مؤسسة القطان عام 2017، مع توصية بالنشر.

وتقع المجموعة في 104 صفحات من القطع المتوسط، وصمم غلافها الشاعر زهير أبو شايب، واحتوت على 7 نصوص.

ولد بدر عثمان في القدس عام 1992، ويعمل كاتبا ومنسقا لمنشورات دائرة تعزيز الموارد في جامعة بيرزيت، وحاصل على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة بيرزيت عام 2014، وصدر له عام 2018 مجموعته الأولى "الأعمى" عن دار الفارابي في لبنان ومؤسسة تامر في رام الله.

وجاءت مداخلة عبد الرحيم الشيخ على النحو التالي:

عن مؤسّستين فلسطينيّتين تتعهّدان المبدعين الشباب: "مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ"، و"مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، صدر ديوانا بدر عثمان "كتاب الأعمى" (2018)، و"ترجمة باخ" (2019)، عن دارَيْ نشر عربيّتين، وزامل صدورَهما درس أكاديميّ للأدب والنقد في "جامعة بير زيت". ولعلّ في ظروف إنجاز العملين ونشرهما، ما يحيل إلى مقولة ذائعة، مؤدّاها أنّ "الفنّان المبدع هو الّذي يبدأ التمثيل حين يغادر المسرح"، وكذا يبدو الأمر مع بدر عثمان، الّذي بدأ تجربة الشعر الفعليّة حين غادر عتبة مدارس "تعليم" الكتابة الإبداعيّة، و"نقدها"، لا خافضًا من شأن الدربة، بل مُعليًا من شأن الـمُلابسة.

ففي زمن كثر فيه الشعراء وقلّ فيه الشعر، تعلن تجربة بدر عثمان تخلُّق مقولة جديدة في الشعر الفلسطينيّ، لا تبشّر بمولود ولا تعزّي بمفقود، لكنّها - دون ادّعاء - تؤسّس لاقتراح مهمّ في كسر "اجترار التفعيلة" و"ابتذال النثريّة"، الّذي صار الرياضة الكلاميّة الأثيرة، لدى الكثير من المتطفّلين على الشعر. يقوم هذا الاقتراح على جدل أصيل، وأصلانيّ بين ثلاث ثنائيّات: جماليّة، وفكريّة، وسياسيّة.

شعريّة التساقي - شعريّة المجاورة

في غمرة انشغال الشباب ممّن يكتبون الشعر، أو ما يعتقدون أنّه كذلك، بالمقدَّس والفلسفة، تدشّن تجربة بدر عثمان في "ترجمة باخ" على "مجاورة" شعريّة لموسيقى يوهان سبستيان باخ، لكنّها أكثر من "مجاورة" بين فنَّي الشعر والموسيقى، وأقلّ من "محاورة"، ربّما يصلح وصفها بأنّها "شعريّة التساقي"؛ إذ يبدو الغَرف من الموسيقى الكنَسيّة لباخ استمرارًا لمشروع أطول في استعارة "المقدَّس"، نصّيًّا وأدائيًّا، والتساقي معه في "كتاب الأعمى". يبدو هذا المشروع دولاب ساقية محمَّلة بالدّلاء، تنهل من النهر؛ فيتجاور الماء، وينمو العشب، ويمضي الوقت... ذلك أنّ "الماء يقسو على بعضه، والقويّ من الماء يطفو، والضعيف من الماء يغرق ماءً في الماء".

هنا، تُبرز ديناميكا الماء سيادةَ النصّ الغالب، وهو ثلاثيّة "المقدَّس" الإبراهيميّ، الّذي لا بدّ من أن تستدرجه أيّ قراءة، تنافذيّة، لمشروع بدر عثمان في لَبِنَتَيْه الأولى والثانية، وتُبرز تخاطر بدر عثمان مع نصّين آخرين، أثيريَّين، ربّما يكون أنجز عمَلَيْه وهو مسكون بهما: رواية جمال ضاهر "وأضحى الليل أقصر" (2005)، الّتي تبدو كأنّها قد أضاءت عمى الطريق لبطل "كتاب الأعمى"، وديوان حسين البرغوثي "مرايا سائلة" (2000)، الّذي يبدو كأنّه قد أضاء بُكم الموسيقى لبطل "ترجمة باخ". وإن لم يكن عثمان مسكونًا بهما، أو مُساكنًا لهما، فهذان العملان يبقيان ضمن منظومة النصوص، الّتي تشكّل "وحدات القراءة"؛ أي النصوص المرجعيّة الّتي نتذكّرها، ونستدعيها حين نقرأ، وليس بالضرورة أن تكون ذات علاقة مباشرة بالنصّ المدروس، بل هي وحدات لتيسير عمليّات التبادل الجماليّ، كوحدات الوزن أو المسافة أو الجهات، في منطق الحياة اليوميّة.

رعويّة القرية - حداثة المدينة

يُعَنون بدر عثمان في رسالته لدرجة الماجستير في "الدراسات العربيّة المعاصرة"، في "جامعة بير زيت"، بـ "القرية الخراب: ثنائيّة الحاضرة الأوروبّيّة والقرية العربيّة، عند الروّاد الأوائل لشعر التفعيلة" (2018)، باحثًا عمّا يظنّه اغترابًا، لدى الروّاد المؤسّسين في الشعر العربيّ المعاصر عن حواضرهم، وأسئلتها الثقافيّة، مردُّه "ترجمتهم" للأسئلة المدينيّة للإنسان الأوروبّيّ الّذي أنجز مشروع حداثته، في ما أنجزت حداثتُه مشروعَ انتصارها على العالم، خارج المركز الأوروبّيّ في القرن العشرين، قرن الحروب الطويل، في ما ارتدّ الشعراء العرب - فلكلوريًّا - إلى القرية وتجاربها الرعويّة؛ لرأب صدع اغتراب أسئلة الحداثة المنتصرة على مدينة عربيّة، لا تؤسّس حتّى لحداثة مهزومة.

في مشروع بدر عثمان ما ينبئ عن انتقام جماليّ لافت، لحداثة المدينة الأوروبّيّة (المغلوبة باللغة، الغالبة بالتاريخ)، من رعويّة القرية العربيّة (الغالبة باللغة، المغلوبة بالتاريخ)؛ فالخطّ الحكائيّ لـ "كتاب الأعمى" يفيد أنّ الأعمى والراعي، بطل الديوان وبطله النقيض: "على السفح كانا، يفكّكان الأرض: الراعي يجمع الأغصان، يضعها حول أغنامه، الأعمى يفكّك اللغة". ثمّ يمضي الديوان يستدرج القرية بكامل رعويّتها وحيادها السياسيّ، ويقصّ أوديسّتها الّتي لا نصر فيها ولا هزيمة؛ إذ "في القرية: الناس الرجال يرعون الأغنام، ويرجعون بقوافل ذهب، من قمح وفضّة. والناس النساء، يحلبن الأغنام والماعز، وكأنّهنّ يحلبن الحرير. والغزالات يلعبن مع الرماة، حين تصاب إحداهنّ برمح يفتّت قلبها".

وأمّا في "ترجمة باخ"، وانطلاقًا من "كونشيرتو الدخول"، فيصحو خيال الشاعر، الّذي "صار شجرة (يـ)ـنام تحتها كلّما أراد الوصول"، على فتنة المدينة الغالبة في "ضباب أوروبّا"، الّتي حوّلت خشب الصليب إلى آلات لموسيقى الجنّة. هناك، تتحوّل المدينة بأسرها إلى مقولة جماليّة – فكريّة، يستثمر فيها باخ ما شاء من رأسمال الموسيقى، الّذي رَوْحَنَ الانتصار الوحشيّ على ابن الإنسان خارج أوروبّا: "قلبي قيثارة الله، ومدينتي كنيستي، تطفو حين يفتح الصباح الهائل يديه؛ ليقطف تموّج الصوت، وتغرق حين يقوم الناس". هنا، يتحقّق قصد الجماليّة الّتي جرى تفكيك ما فيها من تسييس، حين يعلن باخ، الّذي يترجمه عثمان بتصرُّف كبير، انتصارَ قيامته في زمن غير قياميّ: "أُخرج الشياطين من الكنيسة بالموسيقى، وبالموسيقى يعبد الناس الربّ، ويرون القيامة بأعينهم تقترب".

في واقع أوروبّيّ مادّيّ يؤنسه لاهوت مشرقيّ، يحلو "انتظار ماثيو الطويل"، وتساعد بنات أورشليم الأسطوريّات، مايسترو براندنبورغ الواقعيّ، ويلهمنه، ويصرن "حوريّاته": "تعالَين يا بنات، ساعدنني أرثي الحَمَل، احملن صبره وخطيئته، واحملن قلبه"، فالموسيقيّ الّذي "لم يكن له نبيّ"، يصحو من حلمه، ويرى الموسيقى، ويصنعها، ويكتب تاريخ مدينته، مدينة الموسيقى، و"الموسيقى أمّ المدن" الّتي يترجمها بدر عثمان، بتصرُّف كبير هذه المرّة، قبالة قريته الرعويّة: "براندنبورغ: لغة الضائعين، وملاذ فقراء، تاهت أقدامهم، وقلوبهم، فوصلوا. هي نبات قلب، نما صدفة على عتبات حجرٍ عريق، وأحلام مدن صغيرة، وأرياف مزّقها الشتاء. وهي أمّ الخائفين، وجدّة الصوف، والدفء".

صليب النار، صليب الثلج

ثمّة غياب لافت للمسيح الفلسطينيّ وكتابه في "كتاب الأعمى"، وحضور لافت، مترجَم، في "ترجمة باخ"، لا أيقونةً سياسيّةً، بل رمزًا للتقوى، حين يصير باخ هو المسيح الّذي يوزّع الخبز والحكمة والموسيقى والإيمان، ويحاول ترميم العالم دون جدوى. ثمّة سطر سياسيّ واحد يظهر في الفصل السادس عشر من "كتاب الأعمى"، الّذي يغصّ بالسخرية النبيلة من نعمائيّة المقدَّس: "ثمّ كان النور من الشجرة، والأعمى حافيًا وقف يستمع إليها، لا يريد أرضًا تفيض باللبن والعسل، يريد ذاته والماء الفضّة. يده برصاء كالثلج، وعصاه ترى ما لا يُرى من الطريق الوادي".

أمّا في "ترجمة باخ"، فثمّة استبدال للمسيح الغربيّ - "التاريخيّ" بالمسيح المشرقيّ - "اللاهوتيّ"، مسيح في هيئة باخ، الّذي جاوره عثمان؛ فتساقى معه وسقى: "أعطني خشبًا أيّها المسيح، فأبني بالخشب آلة الجنّة. ردّ لي روحي لأحرس حكمة الثلج، وأرفع الموسيقى من ندي الحجر إلى كتف السماء". ويواصل باخ التقمّص الجماليّ، الّذي لا سياسة فيه ولا حروب على لغة الأنبياء وخيارات الآلهة، معلنًا: "تعالوا أبنائي، كلوا كتفي، سأعزف منذ الآن بيد. تعالوا لنحفظ أبانا ضائعًا من ظلمة الشتاء، ونزرع الموسيقى لتُنبت خيالًا للهواء، ولتأكل حديد الوقت. أبنائي، وكلوا يدي، سأعزف منذ الآن بقلبي".

وعلى الرغم من دقّة بدر عثمان المشرقيّ، في ترجمة باخ الغربيّ، إلّا أنّ نصًّا درويشيًّا أثيريًّا، تسلّل لتجربته كي يمارس توكيد مشرقيّة الصليب على درب الجلجلة، وضرورة حضوره أيقونةً للمعاناة العالميّة: "كلّما مررت على حديقة قتلتني؛ ولذا، مشيتُ على الأسفلت، ورأيت أهلي يبنون بيتًا لقاتلهم. كانوا وقاتلهم يصلّون معًا، ولكنّهم وحدهم كانوا يموتون كلّ يوم. وكلّ يوم كنّا نحمل يومنا إلى غدنا ونموت. يا إلهي، لماذا نموت وحدنا هكذا؟".

"التحويل" وسيط المجاورة والتساقي

في قصيدة "جاز شرقيّ" في ديوان "توجد ألفاظ أوحش من هذه" (1998)، يقول حسين البرغوثي: أنا "لا أترجم، بل أحوّل". والتحويل، عند البرغوثي مفهوم مركّب، يشكّل أساس العمليّة الإبداعيّة، وقد توسّله في معظم أعماله، وأنجز عنه رسالته "الصوت الآخر: مقدّمة إلى ظواهريّة التحوّل"، وهو نصّ نظريّ كتبه بالإنجليزيّة، وقدّمه لنيل درجة الدكتوراه في "الأدب المقارن"، من "جامعة واشنطن، سياتل"، عام 1992، وقمت بتحويله إلى العربيّة.

في مشروع بدر عثمان، تحقيق نادر لنبوءة البرغوثي بضرورة "التحويل" لا "الترجمة"، وإن انتحلت صفات "التحويل"؛ ففي "كتاب الأعمى"، يحوّل بدر عثمان التوراة والقرآن، بما فيهما من فرح جماليّ وتوتّر سياسيّ، من لاهوت أخفق في إصلاح العالم، إلى حكاية تمتدّ بين التكوين والقيامة، يمكن "أعمى" أن يكونها ويكوّنها، قبل أن يمضي، ويقضي. وفي "ترجمة باخ"، يحوّل بدر عثمان عناء باخ لإنقاذ العالم، بموسيقى الإيمان السعيد، بما فيها من فرح سياسيّ وتوتّر جماليّ، إلى مجاورة بين قرية صُلِب مسيحُها على صليب من نار، ومدينة صَلَب مسيحُها نفسَه على صليب من ثلج؛ ليفرح ابن الإنسان الّذي ما زال على صليبه في الريف والحاضرة... قلبه ساقيته، بلا ترجمة ولا تحويل!